:قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين في شرح لمعة الاعتقاد
:وينقسم الخصام والجدال في الدين إلى قسمين
الأول: أن يكون الغرض من ذلك إثبات الحق وإبطال الباطل، وهذا مأمور به إما وجوباً أو استحباباً بحسب الحال لقوله – تعالى ((ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن)) [النحل: 125].
الثاني: أن يكون الغرض منه التعنيت أو الانتصار للنفس أو للباطل فهذا قبيح منهي عنه لقوله – تعالى -: ((ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا)) [غافر: 4] وقوله: ((وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب)) [غافر: 5] “.
ويقول الشيخ بكر أبو زيد في كتابه (الرد على المخالف ” ومجادلة من جنح به الرأي إلى قول شاذ، أو إحداث قول جديد في مسألة: باب عظيم من أبواب النصح والإرشاد، فالرد والمجادلة عن الحق بالحق رتب ومنازل، وقد جعل الله لكل شيء قدرا ” ذكر هذا ضمن حديثه عن الرد المحمود في الدين.
ويقول في معرض حديثه عن الرد المذموم {وعلى هذا النوع (الرد المذموم) تتنزل ردود المخالفين كأهل البدع والأهواء على أهل السنة والجماعة ومجادلتهم وإيذائهم وهضم ما هم عليه من الحق والهدى.
وقد بين الله – سبحانه – في القرآن الكريم أنواع مجادلتهم الآثمة وذمها، وهي ثلاثة أنواع: 1- المجادلة بالباطل لدحض الحق: وقد ذمها لله – تعالى -بقوله: ((وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق)) [غافر: 5]. 2- المجادلة في الحق بعدما تبين: وقد ذمها الله – سبحانه – بقوله: ((يجادلونك في الحق بعدما تبين)) [الأنفال: 6]. 3- المجادلة فيما لا يعلم المحاج: وقد ذمها – سبحانه – بقوله: ((ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم)) [آل عمران: 66].
وعلى هذه الأنواع الآثمة من أنواع المجادلة بالباطل، وما جرى مجراها كالمجادلة بتمشابه القرآن، والمراء في القرآن، ومجادلات المنافقين، والجدل في بدعة والجدل لتحقيق العناد.. وهكذا من كل مجادلة تنصر الباطل، أو تفضي إلى نصرته وتهضم الحق، وتحقق العناد تتنزل النصوص من الكتاب والسنة التي تذم الجدل والمجادلة، كقوله – تعالى -: ((ويعلم الذين يجادلون في آياتنا ما لهم من محيص)) [الشورى: 35].
وقول النبي – صلى الله عليه وسلم – في حديث أبي أمامة مرفوعاً: ” ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل، ثم قرأ: ((ما ضربوه لك إلا جدلاً بل هم قوم خصمون)),وعلى هذا النوع المذموم يتنزل أيضاً كلام السلف في ذم الجدل والمجادلة
والمتحصل من كلام أهل العلم في المفارقة بين نوعي الجدال المحمود والمذموم: أن المجادلة المحمودة: هي ما كانت لإثبات الحق، أو دفع باطل، أو للتعليم والاستيضاح فيما يشكل على الإنسان من المسائل.
وأن المجادلة المذمومة:
هي ما كانت لرد الحق أو لنصرة الباطل، أو كانت في ما نهى الله ورسوله عن المجادلة فيه كالمجادلة في المتشابه، وفي الحق بعد ما تبين، أو كانت لحظ النفس كإظهار العلم، والفطنة والذكاء مراءاة للناس وطلباً لثنائهم، أو لغير ذلك من المقاصد المذمومة كالعناد والتعصب للرأي.
وفي الحقيقة إنه بعد تأمل النصوص وكلام السلف، وأقوال أهل العلم في المفارقات بين المجادلة المحمودة، والمجادلة المذمومة، نجد أنها لا تخرج عن ثلاثة أمور:
فهي إما متعلقة بأصل النية، وإما متعلقة بموضوع المجادلة، وإما متعلق بالمتجادلين: وفيما يلي تفصيل لذلك على حسب ما جاء في النصوص وأقوال أهل العلم :-
أولاً: ما يتعلق منها بأصل النية:
والفوارق المتعلقة بالنية من أعظم الفوارق لما لها من أثر عظيم في الأعمال، من حيث قبولها أو ردها ومدحها أو ذمها، ففي حديث عمر المشهور يرويه عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: ” الأعمال بالنية، ولامرئ ما نوى: فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرتها إلى ما هاجر إليه ” .
والجدال هنا إن صلحت فيه النية لله، وكان مبعثه مقصداً حسناً، فهو محمود إن استوفى بقية شروط المجادلة التي سأذكرها فيما بعد -. وأما إن لم يرد به وجه الله وكان مبعثه مقصداً سيئاً، فإنه مذموم من أصله.
فمن المقاصد الحسنة للمجادلة:
أن يكون القصد منها الدعوة إلى الله والرد على المخالفين، وهذا مما أمر الله به نبيه في قوله: ((ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن)) فجعل المجادلة بالتي هي أحسن في المرتبة الثالثة من مراتب الدعوة، بعد مرتبتي الدعوة بالحكمة، وبالموعظة الحسنة.
ولهذا أثنى الله على أنبيائه في محاجاتهم لأقوامهم ومناظرتهم لهم، على ما تقدمت الآيات في ذلك لأنها من هذا الباب.
ومن المقاصد الحسنة للمجادلة أيضاً أن يكون المراد منها التعلم والتفقه، والتناصح في الدين كما كان على ذلك سلف الأمة الصالح.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالى -: ” وقد كان العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، إذا تنازعوا في الأمر اتبعوا أمر الله – تعالى -في قوله: ((فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا)) وكانوا يتناظرون في المسألة مناظرة مشاورة ومناصحة ” .
وعلى هذا يحمل كلام السلف في مدح الجدال كما تقدم عن عمر بن عبد العزيز ” رأيت ملاحاة الرجال تلقيحاً لألبابهم “.
وما يروى عن عمر أيضاً ومالك – رحمهما الله -: ” ما رأيت أحداً لاحى الرجال إلا أخذ بجوامع الكلم “.
وما يروى عن أسد بن الفرات – رحمه الله – أنه قال: ” بلغني أن قوماً كانوا يتناظرون بالعراق في العلم، فقال قائل: من هؤلاء، فقيل: قوم يقتسمون ميراث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ” .
وأما مقاصد الجدال السيئة فكثيرة، وقد ذكر الله – تعالى -بعضها في كتابه:
فمنها: المجادلة بقصد دحض الحق ورده: كما قال – تعالى -: ((وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق))
ومنها: أن يكون القصد منها هو مجرد المجادلة والعناد، كما أخبر الله – تعالى -عن كفار قريش في قوله: ((ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون وقالوا أآلهتنا خير أم هو ما ضربوا لك إلا جدلاً بل هم قوم خصمون)) .ومن مقاصد الجدال المذمومة أيضاً: أن يكون المراد به إظهار العلم والفطنة والذكاء، وقوة الحجة مراءاةً للناس وطلباً للدنيا، فكل هذه المقاصد، تفسد ثواب المجادلة، وتبطل أجرها ولو كانت في حق لأنها لم يرد بها وجه الله – تعالى -، وإنما أريد بها حظ النفس.
فظهر بهذا الفرق بين المجادلة المحمودة والمذمومة عن طريق تلك المفارقات المتعلقة بالنية الباعثة عليها…





Leave a comment